(شبكة أجيال)-د. محمد مصطفى: تحقيق هذه الرؤية سيتطلب: إعادة توحيد الأراضي الفلسطينية وإجراءات إصلاحية لرفع مستوى الأداء
أعي تماماً، وقد تسلمت كتاب تكليفي من سيادة الرئيس لتشكيل الحكومة التاسعة عشرة في ظل هذه الظروف الصعبة وغير المسبوقة، التحديات الهائلة والجسمية التي تواجهنا. فها هو الشعب الفلسطيني يجد نفسه مجدداً على مفترق طرق مصيري، وأمام أزمات مأساوية تختبرنا في مواقفنا التي لعلها أكثر ما أبدع فيها شعبنا مرةً تلو الأخرى: الابتكار والصمود في مواجهة أزمات وتحديات قد يبدو التغلب عليها مستحيلاً لدى أي شعب آخر. لكن ما نواجهه الآن، يختلف عمّا واجهناه سابقاً، بسبب حجم وقساوة الظلم ضد شعبنا، والإجرام الذي ينفذ بطريقة أشد فظاعة من أي وقت مضى، ومن ناحية أخرى أنه يُنفّذ أمام أعين العالم بأسره.
في هذه اللحظة الفارقة تحديداً، وبينما يزداد تصميمنا كفلسطينيين، والمجتمع الدولي أكثر من أي وقت مضى، على إنجاز تغيير حقيقي؛ بات علينا جميعاً أن نرسم طريقًا واضحًا وحاسمًا لوقف الكارثة الإنسانية في غزة، وإنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية. لقد حان الوقت الآن لتحقيق تطلعاتنا وحقوقنا الجماعية التي حرمنا منها منذ ستة وسبعين عاماً، في العدالة والحرية، والأمن، والسلام، والازدهار.
لا يختلف اثنان على أن التصدي للوضع المأساوي الذي حدث منذ السابع من أكتوبر في قطاع غزة الحبيب في مقدمة وأول الأولويات الوطنية. لقد خلّف القصف والعدوان والحصار الإسرائيلي المستمر وما نتج عنه من دمار، أبناء شعبنا في غزة تحت الأنقاض، وخلق معاناة إنسانية لا يمكن تخيلها. وخلف الإحصائيات المخيفة، قصص إنسانية مرعبة، وحياة عائلات بأكملها في وضع لا يتخيله عقل. لقد قتلت إسرائيل في أقل من ستة أشهر، أكثر من 31,000 مواطن، من بينهم على الأقل 13,000 طفل.
ويفقد عشرة على الأقل يومياً من أطفالنا في غزة أحد أطرافه، فيما يعتبر أكثر من 17,000 طفل الآن "بلا ولي أمر"، وقد فقدوا على الأقل أحد الوالدين. فضلاً عن 73,000 جريح، و1.7 مليون نازح عانوا من النزوح مراراً في عدة أسابيع فقط، وهو عدد يشكل 75% من المواطنين قطاع غزة. ومع استهداف البشر، دمّرت آلة الحرب الإسرائيلية المنازل والمؤسسات والبنى التحتية، حيث دمر وتضرر أكثر من 60% من الوحدات السكنية، وانهارت الأنظمة التعليمية والصحية تماماً، ووصل انعدام الأمن الغذائي والمائي إلى مستويات كارثية.
لا شيء في هذا العالم يمكن أن يبرر الجحيم الذي يعيشه ويتعرض له أبناء شعبنا في غزة.
وفي ذات السياق، لا مبرر أيضاً للعدوان المتواصل في الضفة الغربية، من ارتفاع مخيف في إرهاب وعنف المستوطنين، وإجراءات الخنق، والحصار والقيود الاحتلالية التي تطال الحياة اليومية، وقرصنة أموالنا التي تعيق الاقتصاد والاستقرار.
كل هذه العوامل تجعل من الأوضاع الأمنية والاقتصادية في الضفة الغربية أموراً ملحةً لا يمكن تجاهلها أو السكوت عنها.
من الواجب إذاً العمل الفوري لوضع حدّ لهذه المعاناة، ولذلك فإن الأولويات تتلخص بدايةً في مواصلة العمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين لتأمين وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وفي قيادة حملة إغاثة إنسانية لتلبية الاحتياجات الأساسية لأبناء شعبنا في غزة.
وبالتوازي، فإننا نهدف إلى إنشاء وكالة مستقلة متخصصة، تعمل بشفافية وكفاءة، لقيادة جهود التعافي وإعادة إعمار غزة، وصندوق ائتماني يدار دولياً لجمع وإدارة الأموال المطلوبة لهذه المهام الكبرى.
يجب إنهاء الحصار، ولا خيار سوى إحقاق حقوق الشعب الفلسطيني (في غزة والضفة الغربية بما فيها القدس) بالازدهار والعيش في أمن وسلام.
من الضروري، بل من الواجب، على المستوى الوطني، أن يتم صياغة خطة عاجلة وشاملة. خطة لا تعالج الأزمات المباشرة التي نواجهها فحسب، بل تمهد الطريق لدولة فلسطينية مستدامة ومزدهرة تسمح لشعبنا الفلسطيني بممارسة حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير، هذا الحق الذي يشكل حجر الزاوية للسلام والاستقرار في المنطقة.
ولتحقيق هذه الرؤية، علينا العمل بشمولية وبطريقة تكاملية، من خلال ضمان جمع مختلف الأطراف والأصوات الملتزمة بالمبادئ والأطر التي وضعتها منظمة التحرير الفلسطينية. ومع الإدراك الكامل للتعقيدات على أرض الواقع، علينا أن نشكل حكومة تكنوقراط من الخبراء، غير حزبية، يمكنها أن تعمل على إعادة ثقة أبناء شعبنا، والحصول على دعم المجتمع الدولي.
ونرى أن مثل هذه الحكومة ستسهّل انخراط جميع الفصائل والأحزاب الفلسطينية في تعظيم الحوار الإيجابي في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، حول الهدف الوطني بالتوصل إلى برنامج بشأن كيفية تحقيق السلام وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، بحكم مؤسساتي ديمقراطي.
وفي صلب هذه الرؤية، تكمن قضية إعادة توحيد شطري الوطن من جهة توحيد المؤسسات، والقوانين، في ظل نظام حوكمة صلب ومتماسك ورشيد وشفاف، وتفعيل التكامل الاقتصادي بين شقي الوطن، وضمان حرية التنقل والوصول ما بين غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية (وبما يشمل إنشاء ممر جغرافي دائم).
في الوقت الذي حازت فيه هذه الرؤية إجماعاً دولياً لطالما اعتبرها الطريقة الوحيدة المقبولة للمضي قدماً نحو السلام والاستقرار في المنطقة، إلا أن تنفيذها طال انتظاره. لقد حان الوقت لتحويل هذه الرؤية إلى حقيقة واقعة.
إن الحكومة المقبلة عازمة على مواصلة وتعزيز مسيرة الإصلاح المؤسسي، كمتطلب وضرورة وطنية، للنجاح في المهام الكبرى الموضوعة أمامها، ولكسب ثقة أبناء شعبنا. ولتحقيق هذه الغاية، ستشرع الحكومة فور تشكيلها في وضع وتنفيذ برنامج إصلاح شامل يتضمن تحسين الضوابط المالية والشفافية، وترشيد البيروقراطية، وتعزيز سيادة القانون، وحماية استقلال القضاء، ومكافحة الفساد، ودعم حقوق الإنسان وحرية التعبير، وتمكين المجتمع المدني والهيئات الرقابية، والتحضير لانتخابات ديمقراطية.
ولإعادة التأكيد، نقول بوضوح إننا سننتهج سياسة عدم التسامح مطلقاً تجاه الفساد مع الالتزام الكامل بالشفافية. إننا نؤمن بشكل راسخ وغير قابل للشك أن وجود حكومة فعالة وخاضعة للمساءلة أمر بالغ الأهمية ليس فقط لحشد الدعم والمصداقية الدوليين، ولكن الأهم من ذلك، لكسب ثقة شعبنا.
ومع إدراكنا للشكوك التي تثار لدى الإعلان عن برامج الإصلاح نظراً للعديد من العوامل والتجارب السابقة؛ إلا أنني ملتزم بتوضيح النتائج على الأرض، وبالمساءلة. وستشمل الإجراءات تشكيل مجلس وزراء يتمتع بالمصداقية والمهنية، وإنشاء مكتب تنفيذي للإصلاح المؤسسي ضمن ديوان رئيس الوزراء لإنفاذ الإصلاحات المؤسسية والذي سيكون مكلفاً بوضع الخطط الإصلاحية المطلوبة، وضمان تنفيذها، بالتعاون مع مؤسسات الدولة ذات العلاقة، ومؤسسات المجتمع المدني الوطنية، والمنظمات الدولية التي تملك الخبرات اللازمة وذات الصلة، مثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وبالتأكيد فإن النجاح في هذه المهمة يتطلب دعماً من المجتمع الدولي من خلال ضمان وضع حد للسياسات التي تنتهجها وتفرضها الحكومة الإسرائيلية، ودعماً وتعاوناً وتشجيعاً وصوتاً من الجميع لتعظيم فرص النجاح.
وبلا شك، فإن الخطوة الأساسية في استعادة ثقة شعبنا وضمان الشرعية تكمن في الالتزام بإجراء انتخابات ديمقراطية. وسنعمل على التهيئة لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية كخطوة وطنية وضرورية لتفعيل مؤسساتنا الديمقراطية، لتكون الانتخابات حرّة ونزيهة وشاملة للجميع، مع الوعي التام أن المعطيات على أرض الواقع في غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية يجب أن تكون في وضع يفضي إلى ضمان أن تكون هذه الانتخابات ممثلّة لأبناء شعبنا بشكل حقيقي وشامل.
وبالتأكيد، يبقى موضوع تحسين الاستقرار المالي للسلطة الوطنية الفلسطينية، وتنشيط الاقتصاد الوطني، إحدى المهام الكبرى، التي أقل ما يمكن وصفها به بأنها ستكون شاقة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار اعتمادنا الكبير على المساعدات الخارجية المتضائلة والقيود والإجراءات الخانقة التي يفرضها الاحتلال. وبالرغم من حجم التحدي، إلا أن تحقيق ذلك ليس مستحيلاً. من ناحية، يجب إزالة القيود الإسرائيلية، ومن ناحية أخرى، لا بد من تأمين دعم المجتمع الدولي، وقطاعنا الخاص، بما في ذلك في الشتات. وبالعمل الجاد والحقيقي معهم سنكون قادرين على الوصول إلى تنويع مصادر إيراداتنا، وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية، وإنشاء اقتصاد مزدهر وتنافسي وقادر على الصمود والاستدامة.
إن الطريق إلى الأمام يتطلب أفكاراً وإصلاحات جريئة، وإجراءات حاسمة، ومشاركة شاملة للجميع، وشفافية، وكفاءة في العمل، وبذات الوقت واقعية في التنفيذ.
لقد حان الوقت لإنهاء معاناة شعبنا الفلسطيني. نحن شعب قوي ومبدع وقادر، ولكن لا يمكننا القيام بهذه المهمات بمفردنا. إن وحدتنا الوطنية ودعم المجتمع الدولي وشركائنا الإقليميين أمر لا غنى عنه لتعزيز السلام، والأمن، والاستقرار، والازدهار لفلسطين وشعبها، كمفتاح أساسي للأمن والاستقرار للمنطقة أجمعها.
لقد حان الوقت الآن لتحرير فلسطين، مرة واحدة وإلى الأبد.
الدكتور محمد مصطفى
رئيس الوزراء المكلّف