١٦ يوما بين الحياة والموت

١٦ يوما بين الحياة والموت

31 ديسمبر، 2018 - 11:12pm

أسيل دزدار: كان معطاء كريما، يطعم كل من يدخل منزله، فلم يسترخص جسده على وطنه. لم يحب الجلوس قط، كان يحب الحركة دائما والذهاب في نزهات، فأبى جسده أن يحبس نفسه في هذه الحياة الدنيوية المحدودة. هذه قصة محمد إبراهيم شريتح الملقب ب"شكير" ابن قرية المزرعة الغربية.

يوم الجمعة، في ال26 من أكتوبر تشرين أول 2018، كان من المفترض أن يكون في مدينة رام الله عند أخته المتزوجة هناك كما اتفق مع أمه وأبيه. ذهب الأب إلى نابلس عند ابنته الأخرى المتزوجة هناك تبعا لذلك مطمئنا على مكان ابنه الآمن إلى حد ما.

أمه أيضا كانت قد أخبرته قبل يوم في ساعة مغربية أن أخته في المدينة "زعلانة عليه" لأنها لم تره منذ فترة. فرد قائلا إنه اتصل قبل جمعتين وقالت إن عندهم حفل زفاف ليحضرونه، والجمعة التي تلتها كانوا في مشوار ثم قال إنه سيتصل فيها في الحال، وفعل. وقال لأخته:"مش تكولولي طالعين ع عرس؟ بكرة جايب أمي ومحمود والبنات ومرتي وجايين عليك".

ويوم الجمعة، في اليوم التي كانت تتحضر فيه الأخت التي في المدينة لحضور أهلها، قالت أخته الصغيرة لأمها إنه ذهب للمواجهات، استنكرت الأم، فردت البنت: "هو كال لي ما أكللك بس هو بده يروح ساعة ويرجع". وعندها بدأت الأم بالغليان، واتصلت على العديد ولم يرد أحد. بعد ذلك اتصلت بابنتها وإذ جاء ابنها يقول لها "خالي تصاوب"، سألت أم محمد: "محمد ولا محمود"؟ فانقطع الخط.

قال الأب إنه كان يتواجد دائما عند خط التماس، وعندما كان يطلب منه أبوه عدم الذهاب، كان يتحجج بأنه "فش شغل". كان يعمل بليطا مع أخيه في شركة في رام الله. وعن سبب اختيار هذا اللقب له قال السيد إبراهيم: "اسمه "شكير" من كثر ما شعره أشكر وعيونه زرق، بعض الناس فكروا أنه من البوسنة....زي البدر...لهلأ اسمه على التلفون "شكير" مش محمد".

أخته مجدولين التي تكبره بسبعة أعوام، قالت إنه يوم ولد كان كيوم عرس، وكأن عندهم عريسا جديدا لا مولودا. " كان عنا كتير ناس بالدار، أهل أبوي وأهل أمي" ولدته أمه في 12 شباط فبراير 1990. وضع الوالد صواني الكنافة الكبيرة في أكثر من محل على مداخل القرية كحلوان ميلاد ابنه.

كانت في الصف الثاني يوم ولد، وكانت الفرحة لكل العائلة بل "لتشل البلد" أي كلها. وأكملت بعد أن رق صوتها قليلا، "بكيناش نخليه يعيط. إذا عيط كنا نحمله بين إيدينا".

أخته صابرين هي الأخرى تتحدث عنه، تكبره بعامين اثنين هي البطن السادس لأمها وهو السابع. اسمتها أمها بهذا الاسم لتكون من عباد الله الصابرين. فالأم والأب كانا يحاولان إنجاب ولد منذ فترة طويلة، ولم يفعلا في أول ست مرات، لذلك قررا أن يصبرا وأسما ابنتهما تبعا لذلك. تقول صابرين إنه كان يحب المزاح واللعب دائما، وكانوا "يتقاتلون" ككل الأخوة ويتصالحون بعد دقائق، حتى عندما كبر هذه كانت الصورة، مزاح طوال الوقت.

*صابرين شريتح*

الأم قالت إن ابنها كان "يطلع يضرب حجار" مذ كان صغيرا في الرابعة من عمره إلى أن وصل إلى مرحلة الثانوية العامة.

في العدوان الأول على قطاع غزة عام 2008، خرج هو واصدقاؤه وزملاؤه في المدرسة عند مستوطنة على مقربة من القرية، " والدنيا ضباب ما حدا بشوف حدا" كما وصفت الأم.

كانت هناك خيمة للمستوطنين عند الشارع الرئيس عليها علم إسرائيلي، فأزال محمد إبراهيم شريتح الملقب ب"شكير" وصديقه محمد صالح شريتح العلم ووضعا علم فلسطين. بعد ذلك مرت حافلة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، رشقاه بالحجارة ولم يتوقف. ثم جاء مستوطن وأطلق النار عليهما، وتبعا لذلك، قال شكير بصوت عالٍ "نام الأرض".

تقول الأم، كانا يشبهان بعضهما البعض، كأنهما أخوان، نفس العيون والشكل إلا أن واحدا منهما أطول من الثاني بقليل. واعتقد العديد أن محمد إبراهيم شريتح الملقب ب"شكير" استشهد، ولكن في الحقيقة كانت رأس محمد صالح هي التي تلقت رصاصة المستوطن في ذلك اليوم وهذه كانت مغامرتهما الأخيرة فالرصاصة، كانت قاتلة.

كانا في نفس الصف في المدرسة، طبع صورته ووضعها بجانبه، ولم يسمح لأحد أن يجلس مكانه حتى في الامتحانات التجريبية و الوزارية. من يومها إن لم تكن هناك مواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في قريته، يذهب إلى مواجهات حاجز "المحكمة" القريب من مستوطنة بيت إيل الواقعة على أراضي مدينة البيرة شمالا. لم يكن خوّافا، يخرج ليلا لمواجهتهم، وتطلب منه أمه العودة فيقول لها:" تخافيش، هدول جبناء". ومنذ استشهاد صديقه، طلب محمد إبراهيم شريتح الملقب ب"شكير" الشهادة، أراد اللحاق بصديقه.

يوم الجمعة في 26 من أكتوبر تشرين أول عندما اتصلت بابنتها وانقطع خط الهاتف، تجمع كل أهل البلد عند باب منزلها. ذهبت للمستشفى، وما أن وصلت قال لها ابنها محمود متحدثا عن أخيه: "يما والله بيحكي معاي، تخافيش أجت هان" -مشيرا إلى كتفه- وبعد لحظات قيل لها إن الإصابة بالرأس. وقالت الأم إن إصابة ابنها جاءت في نفس مكان إصابة صديقه الشهيد.

ودخل محمد إبراهيم شريتح المقلب ب "شكير" غرفة العمليات، وبقي فيها لست ساعات لإيقاف النزيف. عندما وصل الأب قادما من مدينة أخرى، قال له الأطباء:" ابنك استشهد، لولا قدرة الله اتدخلت فيه وأحيته، ولّا هو شهيد".

تتابع الأم التي لطالما قطعت الدمعات كلماتها:" أكبر نعمة إنه بكى منيح معنا، كان يشتغل بلّيط مع أخوه في ورشة، قبل الشغل يبوس ايدي ويبوس راسي، ويكول لي يما إرضِ علي، أكول له يما يمكن برضى عليك النص وعلى خواتك النص". تعبر له عن خوفها من أن تعتقله سلطات الاحتلال فيجيب كما العادة: "تخافيش هدول جبناء".

ولما كانت تطلب منه عدم الذهاب للمواجهات، كان يقول: "زيي زيي الناس، بدنا ندافع عن وطننا". كان المتسوطنون يأتون إلى جبل نعلان لأداء طقوسهم التلمودية، فكان يشجع شباب القرية لمواجهتهم، وكان في المقدمة، وقال لو أدى المستوطنون ذلك في الجبل سيفعلون ذلك غدا في دورنا.

لليوم، "تشل البلد"أي كلها، يتحدثون عن الذي كان يفعله في نعلان. لم يكن يعرف شباب القرية أن يتحركوا هناك من دونه، ويتصلون به حتى لو كان في طريقه إلى عمله أو إلى زيارة أخواته. "بلا محمد بزبطش، كل جمعة زي فرض الصلاة كان يروح".

كبر هذا الشاب أخضر العينين الذي كان مع صديقه محمد صالح عندما استشهد، وتزوج بعد ذلك ببضعة سنوات. فتاة من قريته، اختارتها له أمه، تحدثت الأم مع أم العروسة قبل أن تخبر زوجها أو ابنها العريس. فبعد أن أعطتها أم الفتاة موعدا، اتصلت أم محمد على إحدى بناتها المتزوجات وقالت لها: " شكله أبوتش بده يحاويني اليوم" أي أن مشكلة ستقع بينهما، فهي لم تخبره بذلك الموعد. قالت لها ابنتها: "خليها عليّ يما". اتصلت بالوالد وأخبرته، ومر الأمر على ما يرام، وسألت ابنها "برتضى بتنقايتي يا محمد؟" أي بمن اخترتها لك؟ قال: "طبعا". قالت له: "بدي أجوزك بنت أختي"، فقال لها بأنهن كلهن صغيرات، ثم أخبرته أن أم منار أختها بالرضاعة. "والله وبعيدن كعد معها وانبسط" أكملت الأم.

أما العروس كانت أنهت الثانوية العامة حديثا، ولم تكن فكرة الزواج في بالها بتاتا. أرادت أن تكمل تعليمها الجامعي ورفضت فكرة قدوم العريس. قال لها أبوها" أنا صرت معطي موعد للجماعة، أكعدي معه، إذا ما عجبك كولي لا". تقول منار ابنة ال23 سنة: "أول ما كعدت معه ارتحت، ما توقعتش هيك، خطبنا سنة، وتجوزنا ب10-10-2014، واتصاوب ب26، بعد عيد زواجنا بكمن يوم". كان شهر العسل الخاص بهما بالعقبة في الأردن.

أكملت منار زوجته دراستها وحازت على شهادة في الرياضيات وأنجبت بنتين، سوار التي أسمتها أم محمد ورحيق التي أسمتها هي، كان يدلعها "رحرح". ساعدتها أمه على تربيتهما والعناية بهما وبالمنزل في فترة دراستها وغيرها.

"عشت معه أحلى سنين، كنت أكلله بناتك يا محمد، مرتك، أهلك، تروحش عالمواجهات". وفي مرة من المرات طلب منها أن يتفاهما، وجلسا. قال لها متسائلا، لو وضعتيني في غرفة وحبستني فيها، أستزيدين في عمري؟ فأجابت نافية. فقال لها: إذن دعيني أفعل ما أريد. قالت له: "الله يسهل عليك يا محمد".

اتخذت منار صف حماتها ولم تكن تناديه ب"شكير" كما كان يفعل أصدقاؤه. أما هو فكان يناديها "منّورتي".

سألتها عن هذا اللقب عندما تحدثنا عن صديق طفولة محمد إبراهيم شريتح الملقب ب"شكير" وابن خاله مدحت باقي. كانا يقضيان الوقت معا دائما، وعندما تزوج قال لمدحت: "تخافش أنت في المقدمة" ومن قبل فكرة الزواج كلها، في لحظة ما ربما كانت محكية أو لم تكن، اتفقا على أنهما سيكونان صديقين طوال العمر مهما حصل. فسألتها إن كانت تتضايق بعض الشيء من كثرة خروجه مع مدحت، وأكملت سائلة ماذا كان يقول لها عندما يراضيها؟ فأجابت "منّورتي" أما هي فوصفته لي بالملاك.

مدحت كان يُعتبر وكأنه ضرّة منار، أي زوجة محمد الثانية. فكان صباحا يتحدث معه وهو يدخن سيجارته أو يشرب قهوته. وإذا كان في العمل وأخذ استراحة لبعض دقائق، يتصل بمنار ثم مدحت أو العكس. كان عادلا كما قالت منار، ولم يكن يتح فرصة لها لكي تغضب منه على كثرة خروجه مع مدحت. كان يحب الخروج دائما، "كنّا دايما نطش" قالت منار. وفي بعض المرات التي لم تكن ترغب فيها بالخروج، كانت تطلب منه أن يبقى معها قائلة "دشرك من مدحت"، فيجيب ضاحكا: "شو، بتغاري علي من مدحت؟"، لم يحب الجلوس قط. كان دائما يذهب مع أحبابه إلى الحدائق أو الجبل أو المتنزهات. رام الله أونابلس أوأريحا.

ربما كان كوالده الذي جلس معنا في غرفة استقبال الضيوف في منزله لبضعة دقائق ثم غادرنا بعد أن سألته عن شخصية ابنه عندما كان صغيرا. قال "شخصيات تشثيرة" -أي كثيرة- ثم صمت ونظر إلى مسبحته الخشبية. وأكملت الوالدة الحديث، ولكنني لاحظت انصرافه إلى أماكن أخرى في الدار. ذهب ليلعب مع أحفاده وليعتني بالحمام. لم يحب أن يجلس كثيرا.

في تلك اللحظات الأولى من الجلسة، وأمه خضراء العينين تتحدث عن إصابته وتقول إن الأطباء قالوا للأخ والأب إن الرصاصة في الدماغ وسببت ضررا كبيرا، وقالوا إن محمدا وصل شهيدا وحياته معجزة. كررت هذه الجملة. وتكمل الأم التي احمر وجهها من حزنها أثناء تذكرها تلك اللحظات قائلة: "كان دمه 17 وكان يروح ع مستشفى رام الله يتبرع بدم"، صمتت قليلا، وأكملت: "وصل المستشفى دمه 2، أعطوه 25 وحدة دم". وكانت تنظر إلى الأرض محنية.

تحدثت عن مواقف كثيرة لابنها، وقالت إنه كان كلما رأى سيدة كبيرة في السن تسير في البلد يقول لها "اركبي يا خالتي اركبي، أنت مشوارك بعيد". فلا بد لهذه السيدة أن تتساءل عن هذا الشاب، فيقول لها: "إذا بكللك أنا محمد إبراهيم مش رح تعرفيني، أنا ابن وديعة". وكانت تأتي سيدات القرية لمنزل وديعة يمدحنه، "بجوز عشرين ثلاثين وحدة تيجي وتكول والله ركبني معه، ويشكروا فيه، الله يرضى عليه، ابني خرفني عنه" كما قالت الأم.

قال مدحت إن المظاهرة يوم ال26 استمرت لساعتين تقريبا، من الواحدة ظهرا بعد صلاة الجمعة حتى الثالثة والنصف. ويقول: "إحنا متعودين ع غاز ورصاص مطاط، توتو عالإجرين، خفيف يعني". أما عن الجمعة المذكورة، تمركز الجنود في نقطة قريبة جدا، وضربوا رصاص مطاط وقنابل صوت وقد بدا أنهم بدوأ بالتراجع. ويكمل مدحت:" فمحمد طل عشان يشوف إذا في جنود ولا لا عشان نلحق نضرب عليهم، قال أنا بدي أضحي اليوم وأطّلّع. قال فش حدا، اللي شجع المسيرة إنه تضرب إنه الجيش شرد".

بعد ذلك بدأ الضابط الإسرائيلي بإطلاق النار، كان مدحت مع محمد في منطقة أقرب من باقي الشباب، أطلق الضابط النار عليهم، وكان مدحت يعتقد أنه يطلق رصاصات صوت، لكنه فورا رأى عشرة شبان يتدحدلون على الجبل لأنهم أصيبوا، نادى على صديق عمره محمد إبراهيم شريتح الملقب ب "شكير" عندما أدرك إطلاق النار، أنهى الضابط إطلاق الرصاص على أولئك الشاب وأراد أن يكمل مهمته عليهما، وكان محمد إبراهيم شريتح الملقب ب "شكير" يركض نحوه حاملا قنبلة غاز أطلقها جنود الاحتلال الإسرائيلي تجاهه وأراد أن يعيدها حيث أتت رميا، فقال مدحت: "نام الأرض" ويبدو أنه عندما نام الأرض، لم يقُم منها، ضرب الضابط أربعة رصاصات حية، وصف مدحت ذلك ب"الصيد"، دخلت واحدة من رأس محمد من الخلف.

يقول مدحت إن عدد قوات جيش الاحتلال يكون بالعادة من 50 إلى 70 جنديا إسرائيليا. يرافقون المستوطنين بحجة أنهم يريدون أداء طقوسا تلمودية في أماكن متعددة في القرية.

وعندما حاول المستوطنون القيام بذلك بالقرب من جبل نعلان الذي أصيب فيه محمد إبراهيم شريتح الملقب ب "شكير"، حوّل أهل القرية المكان إلى متنزة بسيط، ووضعوا "شيك". رأى المستوطنون ذلك، وادعوا أن هناك مكانا آخر بإمكانهم القيام بما يقومون به فيه، مكانا أقرب. وعندما علم هو ذلك قال "إذا سووا هيك هناك، بكرة بيعملوا هيك بدورنا" وعندها حصل ما حصل.

يكمل مدحت: "كنت واكف عنده وشفت الإصابة". رأى الدم على الأرض ورأى إصابة على رأسه، نادى عليه ولم يرد. يقول مدحت إنه عادة ما يساعد المصابين، يداويهم ما استطاع ويحملهم ويسير بهم إلى نقطة أمان ما، إلا محمد لم يستطع أن يفعل ذلك له. أخذته سيارة الإسعاف، وذهب مدحت في سيارته للمشفى، وقال "لأني عارف إنه الإصابة بالراس، كنت مش مسدك وأنا أوصل، عبرت على الطوراىء جراي –أي جريا-، الدكاترة قالوا تخافش تخافش فش فيه اشي، الإصابة منيحة فش فيه إشي". كان كل أهل البلد هناك، فهناك عشر إصابات أخرى وقعت في نفس اليوم. ثم قال أهل البلد إن محمد إبراهيم شريتح الملقب ب"شكير" استشهد.

يقول مدحت "كعدت على الأرض" ثم بعد لحظات قليلة أعلن أن الشهيد هو عثمان لدادوة. أوقف الأطباء النزيف وقالوا: نجحت العملية، حالته تحسنت، بإمكانكم الذهاب إلى المنزل.

سوار ابنته الكبرى كانت تسأل كثيرا عنه، فنقول لها أمها إن والدها في أريحا. فترد ابنة الثلاثة أعوام ونصف: "يعني بده يومين وبروِّح وبرجع عالدار؟" فتجيب الأم موافقة. الصغيرة رحيق ابنة العامين التي كانت تحضن صورة والدها عندما أحضرها أهل البيت لي، كان يقول إنه يخاف عليها لأنه لم يذبح عنها. فهم كانوا قد ذبحوا سخلا عندما جاءتم سوار وعزموا الأهل، أما عن رحيق لم يفعلوا بعد. فقالت منار إنه قال: "إن شاء الله في عيد ميلادها (28-12 قبل ثلاثة أيام من إجراء اللقاء) بدنا نذبح عنها، ويا منعزم يا منوزع عشان الله يحميها".

ما زالوا يسألون عن والدهم الغائب، أكملت منار: "قبل يومين رن التلفون بالليل، قالت رحيق الصغيرة، بابا برنّ، بابا برنّ. فسألت البنت الكبرى سوار أمها إن كان ذلك صحيحا. ردت:" لا يا حبيباتي بابا برنش، نمن". كانوا ينادونه أبو سوار. كان يقول: " الله يعطينا ولدين بدي أسمي واحد ابراهيم وواحد متين". ولم تستطع لحظات صمت وحزن منار إلا أن تشق طريقها ظاهرة بوضوح في الغرفة.

قال الأطباء أول يوم للأهل إنه حرك قدمه، ثم قالوا، لم يحركها ولكن هناك نبض فيها. ثم صاروا يقولون إنه يستقبل العلاج، وشعر الأهل بالاطمئنان.

قالت الأم إن إصبعه الشاهد الأيمن محروق، فقال مدحت مشيرا إلى قنبلة الغاز "يمكن ما فتحاش مزبوط، شكله صار معاه إشي غلط فيها، يمكن الكبسولة تبعتها ولعت".

وتحدثوا مبتسمين عن مواضيع أخرى. وصفت الأم ابنها الغائب:" بكاش يزعل حدا الله يرضى عليه". ومدحت قال:" كان بعرفش يتكاتل مع حدا، لو تزاعل مع واحد بنفس الدكيكة يروح يصالحه، بعرفش يزعل من حدا". ويكمل مدحت قائلا إنه كان كريما جدا، "بحب يعطي وبحب يطعم حتى أنا أكون جاي عليه الصبح بدنا نطلع محل، يكول لمنار حضري فطور". فيقول مدحت: "يا زلمة أنا بفطرش، بطبيعتي بحبش أفطر"، ويصرّ محمد إبراهيم شريتح الملقب ب "شكير" كما هي العادة على أن يتناولوا طعام الفطور..."بكاش حدا يدخل بيته يطلع بدون غدا".

"وهو بالمستشفى، كنت أدعيله وأرضي عليه"، تقول الأم. وتكمل: "بجوز إخواته ختمن القرآن 100 مرة وهمه يكروله، كانوا الدكاترة يكولوا إنه سامعنا، أبصر إذا سامعنا عن جد ولا لا، الله يرضى عليك يما".

لم يكن عبوسا أبدا، بل كان ضاحكا. لم يكن قائدا في المواجهات فحسب، بل حتى في الحفلات. أخته صابرين قالت إنه حتى في الرحلات "يكون في 20 شب واكف، يجوا الشباب ع محمد، يلا يا محمد غني، يلا نطبل". ولو لم يكن هناك طبلة كان يأخذ طنجرة من هنا أو هناك ويبدأ بالدق عليها. ويكمل مدحت عن صابرين "بيعمل جو حلو لدرجة إنه بيجوا ناس منعرفهمش بصيروا يلتموا علينا". تكمل الأم: كبل فترة كان في عنا عرس بالبلد، ركص ركص لدرجة إنه الناس فكروه هو العريس". تعود صابرين والجميع إلى حالة سعادة متحدثين عن هذه الغائب الأشقر ذي العينين الخضراوين ذي النظرة الحادقة، نظرة شخص يعرف ما يريد، وتكمل عن أمها "كان بحب الكيف يعني، يعمل عجكة من ولا اشي".

يريني مدحت فيديو له في إحدى الرحلات، تتشوق الأم للسماع وتقول "لما بشتاك لصوته بحضر هاي الفيديوهات، ورجيها يا مدحت".

كان الأطباء يقولوا إنه بخير، ولا تعرف إن كانوا يقولون ذلك لأنه فعلا كان كذلك أم لأنهم يريدوننا أن نصبر.

تقول منار زوجته، إن يوم الأربعاء الذي سبق جمعة السادس والعشرين من أكتوبر، عاد من العمل وأراد أن يأخذهم خارج المنزل. لم ترد منار، فلحّ عليها، فقالت إنه لا تريد الآن أن تجهّز نفسها والبنات فهي متعبة ولا تشعر بالرغبة للخروج. فأصر أكثر وأكثر. وذهبوا إلى مطعم في رام الله.


"كأنه كان يودع فينا" قالت منار. "طول الوقت وهو يكول صوريني مع رحيق، مع سوار، تعالي وكفي جمبي خلينا نتصور، كلي هاي، اشربي هاي".

"في المستشفى كل يوم كانوا يكولوا شكل، مرة كويس ومرة مش كويس"، قالت صابرين، وتابعت قائلة إنها كانت تسأل بعض الطبيبات عن حالته وقالت إحداهن إنه لو عاش سيعيش مشلولا أو سيعاني من صعوبة ما.

في مستشفى آخر قبل أكثر من 25 مضت كانت الحالة معاكسة تماما. ولدته أمه في مستشفى الهلال في القدس. تقول الأم: "يومها التموا عليّ الدكاترة قلتلهم أنا علي خطر؟ قالوا لا أنت بدك تجيبي ولد زي القمر، وفعلا زي القمر"، كان السابع بعد ست بنات. أنجبت 11 بنتا وولدين.

تقول الأم: " كنا ندخل عليه عادي دافي، وإيديه سخنات وإجريه، شعر دقنه نبز وطلع، ووجهه رجع لطبيعته بعدما تورم، فصار عندنا أمل ان شاء الله إنه يروق لأنه سمعنا عن كتير ناس اتصاوبوا، وقعدوا 6 أشهر وبعدين راقوا".

وتكمل: "كانوا يسكتوا فينا ويقولوا إنه استقبل الدم والعلاج وادعوا له، يعني يصبروا فينا تصبير، بس أنا قبل يومين، عرفت إنه تعبان".

في اليوم الأول ارتفع ضغط دمه، ودرجة حرارته. وفي اليوم الثاني تقول الأم: "عبرت عليه إلا هو إجريه وإيديه مسكعات، وحسيت صدره بغلي غلي، 41 درجة حرارة كانت، وفي حرشة بصدره من جوا، كان في صوت بس أحط إيدي ع صدره" . لم تستطع احتمال ذلك وأرادت المغادرة، فطلب منها ابنها البقاء حتى انتهاء موعد الزيارة، وفعلت. تقول: "طول الوقت وأنا أقرأ عليه قرآن". وتحشرج صوتها ونزلت دموعها وهي تتذكر تلك اللحظات.

بعد أن استجمعت قواها، وبعد أن اعطاها مدحت زوج ابنتها منديلا قالت:" طلعنا وعارفين إنه تعبان، خفنا يصير إشي واحنا هناك والواحد ما يقدر يتحمل، روّحنا عالدار ودشّرنا –أي تركنا- الزلام غاد". كانت متعبة من أيام طويلة قضتها في المستشفى. قالت إنها طلبت من بناتها تحضير الطعام، فهن كثر، عشرون تقريبا، هن وأبناؤهن وبناتهن وزوجته وبناتها، "بدهم ينحرموا من الأكل؟" سألت مستنكرة.

تقول إنها ذهبت لسريرها لتستريح قليلا نامت، ثم صحيت ثم سهت مجددا، وأكملت ويبدو أنها تتحدث عن يوم كتب كتاب ابنها "إلا هي مرته جاي علي بتقللي والله ما هو زابط، رحت ع 3 شيوخ وما زبط، بعدين قالت الأم لمنار: يا عمتي شو بدنا نساوي؟ إلا هي بإيدها ورقة بيضا وقالت هي في شيخ وافق وكتب كتابنا. وأكملت الأم:"وقتها بقت طلعانة روحه ومعناش خبر...حسيت من لما حلمت فيه". وتابعت: "حطينا الأكل عالطاولة إلا هو طايح علينا ولد وبنادي، عمتي...هيه يا عمتي...محمد استشهد". فسألته من الذي قال له ذلك، فأجاب أن هذا حديث الأولاد. وقالت الأم إنهم في القرية عرفوا الخبر قبل الذين كانوا في المشفى.

في العاشر من نوفمبر تشرين الثاني، استشهد محمد إبراهيم شريتح الملقب ب"شكير" بعد أن أمضى 16 يوما في المستشفى الاستشاري في رام الله. وقال الأطباء للأهل إنه بقي حيا ل16 يوما لكي يهونها الله عليكم.

تقول أخته صابرين، إن قبل إصابته بنصف ساعة، كانت اتصلت بزوجها مدحت وقال لها إنهم تراجعوا، طمأنها وقال إنهم سيعودوا للمنزل في غضون نصف ساعة إن أراد الله.

وتكمل قائلة إنه في أيامه الأخيرة كانوا يعلمون أنه متعب لكن أملهم برب العالمين كان كبيرا. لم يعتقدوا أنه من الممكن أن يستشهد، بالرغم من كلام بعض الطبيبات. "كان عنا أمل إنه محمد رح يعيش"قالت صابرين. في يوم جمعة كان رقمه الخامس عشر من الأيام التي قضاها في المستشفى علموا أن نبضه توقف. وزاروه يوم السبت بين الواحدة والثانية ظهرا، عادت السيدات للبيت وأعلن استشهاده السبت الساعة الرابعة عصرا.

تقول منار:"أنا ما كنت حاطة ولا احتمال إنه رح يستشهد، بكيت متأكّد متأكّد إنه رح يشفى ويرجع عالدار".

تقول الأم إنه في اليوم الثاني بعد استشهاده، رأته زوجة خاله بالحلم، وكانت تخبر أم محمد إنه كان على فرس لم تر بحايتها مثلها واقفة عند بوابة منزه أهله، مرتديا بنطالا أبيض وعباءة لونها بيج، وكان وجهه النور، تقول على لسان السيدة: "مش كادر أفتح عيني من كثر النور اللي طالع من وجهه".كانت الفرس واقفة بالعرض ومحمد كان ينظر إلى المنزل.

في اليوم الثالث، كان الأب يبحث عن مفتاح ما، وأراد أن يستخدم التلفاز ليستمع لآيات من القران، ولكن كان هناك مشكلة ما فيبدو أنه غضب. أخته التي كانت صائمة يومها هي وأم الشهيد وزوجته، قالت إنها نامت ورأته في المنام يدق الباب. "فتحت الباب إلا هو محمد أخوي وكف كدامي" قالت له: "يي يا محمد يا حبيبي أنت جيت يا خوي أنت جيت؟ وفش فيك اشي؟" فأجاب موافقا وسألها: ليش أبوي وامي متكاتلين؟". نفت ذلك وقالت إن الوالد يبحث عن سلك التلفزيون لأن الأم تريد أن تستمع إلى للقران. قال لها: "سلمي ع أمي". فقالت له: "أمي في البرندة ومنار بدهم يشوفوك"، فقال سلمي عليهم.

أخته الصغيرة أيضا حلمت به وأرسل سلامات في حلمها إلى أمه، وما أن غادر رأى أخوه محمود أمامه فحضنه وقال له: "سلم ع أبوي".

تقول الأم : "كل اللي شافوه ببشروا بالخير". حتى الأم رأته بالحلم، ووصفته قائلة" بكول لي يما شايفه فش فيي اشي، ولف ظهره عشان يورجيني جسمه".

كتب له الكثير من الناس القصائد منهم أبو مدحت الذي اعتاد الكتابة، حتى الذي لم يفعل كأبي منار حمى الشهيد كتب له أيضا. تقول صابرين "من كثر محبة الناس له"، كان محمد إذا مرض أحد ما زاره، في الأفراح يتواجد أول واحد، في العزاء يكون مع أهل الميت.

تقول الأم عندما كان يغادر منزلها لم يعطها ظهره يوما، بل كان يحدثها طوال الوقت حتى في طريقه إلى سيارته "حراج عليه يدير ظهره، الله يرضى عليه".

يوم الخميس قبل الإصابة جمع كل الأطفال وأخبرهم قصصا كُثًرا، وكأنه قال قصة حياته، وتحدث عن صديقه الشهيد محمد صالح. عندما استشهد قالت أم محمد صالح له: "ضلّك زورني، أنت بتذكرني بابني"، فكل جمعة كانت أم محمد تقول له بأن يذهب عندها. يذهب إليها حاملا هدية، وتطلب منه أن يخبرها عن ابنها وعن كيفية استشهاده. فيقول لها: "مش تصيري تبكي؟" فترد قائلة: " لا لا بس احكيلي"، ويفعل. ويقول إنهما كانا بالقرب من المستوطنة، وأزالا العلم، ووضعا علم فلسطين وإنهما ناما الأرض ثم رفع محمد صالح رأسه وأصيب. تقول أم محمد إبراهيم شريتح الملقب ب "شكير": "كان طالب الشهادة من 10 سنين، من لما استشهد صاحبه".

أبوه كان يحب أن يناديه بلقبه أما أمه تقول: "عمري فحياتي ما كلت "شكير" أنا سميته محمد، أبوه كانوا يسموه أبو حسام، بس قلت إذا الله أعطانا ولد بدنا نسميه محمد". وكانت تقول لابنها ألا يتجاوب مع من يناديوه ب"شكير"، فيسألها لماذا؟ فتقول إن اسم محمد فيه بركة "برتشه". منار هي الأخرى لم تحب اللقب، كانت تناديه بالأصل.

في شباط 2019 سيتم محمدا التاسعة وعشرين عاما، وكان سيتحفل بذلك مع عائلته التي تحبه. ولكنه استشهد غدرا، ككثير من أبناء قريته الذي دافعوا عنها أمام المستوطنين "كل الشباب اللي تصاوبوا انغدروا" قالت الأم. فالمزرعة الغربية التي تبعد 10 كيلومترا من رام الله إلى الشمال الغربي تحيطها مستوطنة تلمون"أ"، و"ب"، و"ج". وفي منطقة الدير هناك نقطة عسكرية مغلقة حسبما قال الأب ومدحت وزوجته صابرين الذين أخذوني إلى موقع الاستشهاد.

يمكن من هناك رؤية المستوطنات التي تحيط القرية من جهات عدة، وتبعا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2334 الذي في 23 ديسمبر كانون أول عام 2016 فإن الاستيطان في الضفة الغربية لا يعتبر شرعيا. ويحثّ القرار على وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطنية.

*صورة أبو الشهيد ينظرإلى حدود القريةـ وتظهر على الأرض آثار عجلات الآليات العسكرية الإسرائيلية*

استشهد محمد إبراهيم شريتح الملقب ب "شكير" الذي وقف في وجه المستوطنين. وقبل ذلك بأيام قال إنه لا يريد أن ينتمي بعد الآن لأي فصيل. لم يحب الدراسة يوما، قدم امتحانات الثانوية العامة دون دراسة، وكان يقول دائما إن الصنعة أفضل من الشهادة. لم تغلّطه أمه يوما ولو كان محقوقا، وكانت توصي مدحت بأن "يدير باله عليه". كان محبوبا من الكبير للصغير، فكان المفضل عند جده لأنه كان يشبهه وكأنه هو. كان يركّبه الفرس منذ كان في الرابعة، وكان رفيق جده إلى كل مكان. تقول أم محمد:" يما شو بكى يحبه، يموت عليه، 16 يوم ما قدرش يواجهه في المستشفى". وتتحدث عن الماضي قائلة: "بكى سيده ينجن عليه ما يخليش حدا يطب فيه. شو ما يطلب أمرك يا سيدي".

في 10-10-2018 كان عيد زواج محمد ومنار، وأهدته هاتفا محمولا. في ال 26 من الشهر ذاته أصيب. في العام القادم، لن يكون موجودا، ستمر الذكرى فقط فيه و في السنين التالية. منار ربما ستكتفي بارتداء سنسالها مربع الشكل الذي فيه صورة زوجها ومكتوب عليه "زوجة شهيد". محمد كان مدخنا، ومدحت كان يعلّمه على الأرجيلة. وكانا فرحين مع العائلة بالسيارة الجديدة التي اشتراها مؤخرا وأطعم جميع أهله حلوانها. رصاصة واحدة وضعت حدا لكل هذه المشاعر.


لم تظل أم محمد محنية، تلك كانت بعض لحظات ستشعر فيها مرات أخرى، لكنها ترضى عليه وتحمد الله على كل ما قدمته له. فهي بعد دقائق وبعد انتهاء اللقاء أبقت رأسها مرفوعا، وكانت سيدتان من القرية المجاورة أتتا لتطمئنا عليها، ومدحتاها كثيرا وزوجة الشهيد. الأولاد في الدار يتحركون محدثين جلبة والجد يلهوا معهم. بعد أن غادرت بساعات تناولوا الطعام، على الأغلب أنهم فعلوا على نفس المائدة التي تلقوا عند وضعها خبر استشهاد ابنهم. لكن صوره المعلقة على جدران المنزل ستبقى في مكانها.